يتساءل المفكر والمتابع السياسي لتجارب بعض الدول: أيهما أسبق تاريخياً، الليبرالية أم الرأسمالية؟ وأيهما ينبني على الآخر؟ يُلاحظ أنه لا توجد إجابة واحدة قاطعة عن هذا السؤال؛ إذ هناك تجارب لدول غربية (أوروبا وأميركا)، وأخرى لدول شرقية (روسيا والصين)، فضلا عن تجارب دول عربية وإسلامية (مصر وتركيا).. تتشابه أحياناً وتختلف أحياناً أخرى، رغم تباين الزمان والمكان والظروف الاجتماعية والسياسية.
ويثبت تاريخ الغرب الأوروبي والأميركي أن الليبرالية سبقت الرأسمالية. بل إن الليبرالية هي الأساس الفكري للرأسمالية كنظام اقتصادي. الليبرالية هي السياسة، والرأسمالية هي الاقتصاد. وقد بدأت الليبرالية فكراً منذ الإصلاح الديني في القرن الـ15 ثم النزعة الإنسانية في القرن الـ16، فتحرير الفكر في القرن الـ17، والثورة الفرنسية في القرن الـ18.. لتبلغ الرأسمالية أوجَهَا في القرن الـ19 قبل أن تبدأ أزمتها في القرن الـ20. ورغم مآثرها في حرية الفكر ورفض سلطة الكنيسة والإقطاع، وتأكيد حرية الفرد وديمقراطية المجتمع، فإنها وقعت في الغرام بجمع رأس المال، فاستبدت الدول الغنية بالمواد الأولية والأيادي العاملة الرخيصة لدرجة استجلابها كعبيد من أفريقيا. لذلك مثّل الاستعمار أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية، وأصبح وسيلة لتراكم الثروات لدى الدول الرأسمالية.
الليبرالية في السياسة والاقتصاد تبدأ بحرية الفرد وامتناع الدول عن التدخل في الاقتصاد، لكن عملياً كانت الدول الرأسمالية مطلقة اليدين خارج حدودها بحثاً عن المواد الأولية والأسواق. وقد ارتبطت الرأسمالية بـ«المجمع الصناعي الحربي» في الولايات المتحدة، والشركات الصناعية الكبرى في ألمانيا وإنجلترا.
كان اكتشاف أميركا هرباً من الاضطهاد الديني في أوروباً وبحثاً عن الحرية وعن الثروة للمغامرين والباحثين عن الذهب. لكن هؤلاء سرعان ما استجلبوا الأفارقة كعبيد لبناء المجتمع الجديد.
وحاولت التجربتان السوفييتية والصينية، ومعهما تجارب عربية ولاتينية وأوروبية شرقية، تطبيق النظام الاشتراكي دون المرور بالمرحلة الليبرالية، فتحولت الاشتراكية إلى استبداد. لقد أعطت هذه التجارب الأولوية للدولة على الفرد، وللعمل على الحرية، وللإنتاج على حقوق الإنسان، وقدمت القطاع العام على القطاع الخاص، وحقوق الجماعة على حقوق الأفراد.. وكانت النتيجة هروب المعارضين إلى الخارج، وظهور الأدب الرمزي دفاعاً عن الحرية وحقوق الإنسان. وتبع ذلك سقوط النظم الاشتراكية في روسيا وأوروبا الشرقية. ومازالت الصين وكوريا الشمالية تتمسكان بالاشتراكية رغم أحداث «الميدان السماوي» وثورة الطلاب المنادين بالحرية.
ثم ظهرت الليبرالية الجديدة للتخفيف من غلواء الرأسمالية، فسمحت نسبياً بتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وفي عمل القطاع الخاص.
كل تطرف مثل الليبرالية الرأسمالية، يخلق تطرفاً مقابلا مثل الاشتراكية، وكل تطرف مثل الاشتراكية يخلق تطرفاً جديداً مثل الليبرالية، رغم أن التجربة الليبرالية أسبق تاريخياً من التجربة الاشتراكية. ثم تأتي اللحظة الثالثة في جدل التاريخ، وهي الليبرالية الجديدة أو الاشتراكية الجديدة؛ إذ تسمح الليبرالية الجديدة ببعض عناصر الاشتراكية، مثل تدخل الدولة للصالح العام، وحق الجماعة الموازي لحقوق الأفراد. كما تسمح الاشتراكية الجديدة ببعض النشاط الفردي الحر، وتفعيل عامل الربح في النشاط الاقتصادي. كما تدافع عن حريات الشعوب، وتناهض الاستعمار، وتدعو للسلام والإخاء بين الشعوب.
لقد تعددت الاشتراكيات؛ فظهرت الاشتراكية العنصرية في حركة المستوطنات الإسرائيلية (الكيبوتس)، كما ظهرت الاشتراكية النازية والفاشية القائمة على نقاء الجنس الآري وتفوقه.
وربما أدرك الجميع أن التطبيق العربي للاشتراكية قد انتهى إلى الاستبداد والفساد وخلق طبقات جديدة من كبار المسؤولين الحكوميين ورجالات الاتحاد الاشتراكي. أنجزت الاشتراكية العربية تغيرات اجتماعية مثل الإصلاح الزراعي، والتأميم، والتمصير، وقوانين يوليو الاشتراكية 1961-1962، وإقامة صناعات وطنية، ومدن للعمال ولجان تحديد إيجارات المساكن، ومجانية التعليم العالي.. لكن ذلك انقلب إلى ضده في مرحلة الخصخصة والانفتاح والسلام مع إسرائيل.
لقد تعددت الاشتراكيات دون أساس ليبرالي، مثل تجربة التسيير الذاتي بالجزائر، والاشتراكية الأفريقية، والاشتراكية المسيحية (لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية)، والاشتراكية الإسلامية.. إلى غيرها من الاشتراكيات التي لم تر النور عملياً.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة